العراقي محمد الشمري يرسم عالماً متداعياً بكل مسراته

المقاله تحت باب  محور النقد
في 
05/01/2007 06:00 AM
GMT



ربما كانت متعتي البصرية وأنا أرى رسومه ومنحوتاته وهي تنمو وتتسع خرائطها يوماً بعد آخر واحداً من أسباب ولعي به، بصفته وهماً مرتجلاً تحضره لحظة إلهام غامضة.

كان الفنان العراقي محمد الشمري (الذي يعرض دفاتره ضمن معرض دفاتر الرسامين في مكتبة الإسكندرية) ينفي عن نفسه صفة الرسام أو النحات وكان في الوقت نفسه حالماً محترفاً يروي أحلامه بطريقتين: يعري سطوح لوحاته من محتوياتها الثقيلة، وهي المعاني التي يلوح بها أي مشهد مرئي مقترح، أو يعكف على استخراج مواقع الدهشة التي يبتكرها لقاء فجائي بين مواد لم يكن مقدراً لها أن تنتسب إلى عالم واحد. في الحالين كان كائناً محتملاً أكثر من كونه واقعة مؤكدة. كانت لوحاته لا تذكر بمهارات الرسامين، كذلك منحوتاته لم تكن لتذكر بتقنيات النحت، في حين كانت المواد التي يستعملها من أجل صوغ رسومه وقطعه النحتية تضعه في مكان ملتبس لا يسمى.

كانت المعاني هي التي استدرجته أولاً إلى ذلك المكان، حيث لا معنى، حيث العبث كله، العبث بصيغته المثلى وهو يلف الأشياء كلها بضلالاته. وهنا تكمن واحدة من المفارقات التي ينطوي عليها المسعى الجمالي لهذا الفنان.

هناك مكيدة صنع منها الشمري مشروعاً متاحاً يسمح له بإعادة النظر في ما يمكن أن يقترحه خيال يديه. سؤال النفي كان لديه أكبر من سؤال الإثبات. بمعنى: إنه لم يكن لديه ما يقال بقدر ما كان رهانه بيناً على الصمت. حيث لا يقوى الكلام على أن يكون وسيطاً. رسوم أو منحوتات محمد الشمري كانت تأتينا محملة بالمعاني غير أنها معان مختلف عليها في سياق معالجتها بصرياً. تلك الأعمال شكلت نوعاً من النفور الجمالي في السياق التاريخي الذي عجز عن احتوائها. ذلك أنها لم تكن تنتمي إلى ذلك السياق ولا استجابت شروطه. ظلت غريبة عنه من غير أن تحاول إغراءه بقبولها. كان صمتها يعيث بها خراباً وينفخ الروح في عزلتها، التي هي مصدر ثرائها الروحي.

يرسم محمد الشمري مجازاً وينحت استعارة. في الرسم يستخرج رؤى النحاتين من المادة وفي النحت يكتشف ولع الرسامين بالعلاقات الشكلية. خطأ في مكان ما صنع كل هذا الاختلاف والتداخل. وهما اختلاف وتداخل ضروريان في هذه الحال، ذلك أن هذا الفنان لا يرى الصفات بل ينساق وراء أفعالها برغبة الموسيقي الذي عاش زمناً وهو يسعى إلى التماهي معه: كان الشمري يوماً ما عازف غيتار. ولهذا السبب إنه يعمل في منطقة تملأها الإيقاعات، تلك الأصوات المتماوجة التي لا ترى، بل في إمكانها أن تحيط الفعل الجمالي بهوائها. إن العجينة الحقيقية التي يصوغ منها هذا الفنان أعماله هي في حقيقتها مقتطعة من ذلك الهواء ولا صلة لها بتلك المواد التي تختبرها يداه في محاولة للإيقاع بها حلمياً. فالجزع والشهوة والتمرد والضجر والغربة والهلع والخراب هي المواد التي تشكل بامتزاجها العالم السري الذي تنهل منه تلك الأعمال.

غير أن الزوال يبقى المادة الأكثر تأثيراً في صوغ ذلك العالم وقيامته. زوال الأشياء المباشر وزوال معانيها وصفاتها أيضاً. إن محمد الشمري لا يبحث عن الأشكال لتكون ملهاته البصرية، بل هو يفتش في فناء الأشكال عن معنى الإقامة فيها ومن ثم أسر ما يتبقى منها. لم يكن الرسم ضالته، فهو يضمر غير سبب للإضراب عن الرسم، بصفته نوعاً من الثناء على العالم. ولهذا انحرف فعل الرسم في اتجاه تقشير العالم وإزالة مظهره الخارجي والبحث في ثناياه الخبيئة عن أثر للمعان مهمل. لمعان يهب ذلك الوجود الجواني نوعاً من سحر النبوءة. تلك النبوءة التي تضعنا في مواجهة عالم يتداعى بنا، من غير أن تعود إلى بقايا جثته بصفتها رموزاً. فالعالم موجود في أعمال هذا الرسام بشظاياه وهيئته المنسية ليكون رمزاً لما يتجاوزه، حيث الإنسان يقف متلفتاً مثل علامة استفهام. لطالما تجاهل الشمري الأصباغ، لا لشيء إلا لأنه أراد لنا أن نواجه عالمه من جهة عريه. وهي إشارة عبثية للاحتفاء بالحقيقة.

إذا كان محمد الشمري يتحاشى الرموز التي تشير إلى العالم، فإن أعماله غالباً ما تبدو مسكونة بالإشارات التي تستلهم الزمن وتؤكد المسافات. هناك في كل لوحة من لوحاته شيء ما يذكرنا بالطرق التي مشيناها وبالمحطات التي انتظرنا فيها وبالساعات التي تفصلنا عما غادرناه وعما نتوقعه. وفي كل الحالات، فإن حساسية مفارقة الأشياء تبدو هي الأشد نفوذاً. كما لو أن تلك الرسوم تسعى إلى توثيق المضي بعيداً، لكن بتمنع الزاهد وصبر العارف.

وكما أرى، فإن الرسام من خلال اهتمامه بأدوات قياس الزمن إنما أراد أن يعيننا على الخروج من كل هذا الخراب الذي يسكن رسومه بالتلويح بأمل يقيم في مكان ما، أمل تقترحه الإشارة إلى الزمن أو تنطوي عليه المسافات. إنه يقترح حلاً، هو بمثابة تميمة يحملها المتلقي معه ليكون بمثابة المسافر الذي يستأنف في كل لحظة فراق نسيانه لما كان عليه، متلهفاً لمعرفة ما سينتهي إليه. خزانة هذا الرسام مملوءة بكل ما يمكن أن يوحي في إمكان العيش خارج حدود المكان والزمان المحتمين. حيث الغربة تفرض ضرورتها بأدوات غيابها، التي هي الأدوات عينها التي تستعملها الحياة لتأكيد حضورها، لكنها تأتي هذه المرة من جهة عدمها. لدى هذا الرسام كل الأوقات صالحة للعيش وكل الجهات تبدو ممكنة بعد الخراب الذي عشناه. وهو هنا لا يرتجل احتمالاً بعينه ولا يطرح تصوراً بديلاً بل ينجينا من مواجهة السؤال التقليدي: إلى أين نمضي؟

في بيتي في بغداد، وهي المدينة التي تبعدها عني الآن آلاف الكيلومترات وملايين الدموع تركت منحوتة تركيبية صغيرة لمحمد الشمري. كانت بالنسبة إلي أشبه بالرقية. صافية ووديعة وهادئة وممتنعة وصامتة ونبيلة وأنيقة، غير أنها كانت دائماً تثير حولها زوابع من الأسئلة. كما لو أنها كانت النــبتــــة الوحيدة الضالة في خواء هذا العالم. كان مرحها لا يسر الضيوف، ذلك أنه كــــان مرحاً غامـضـــاً لا يسليــــهم، فلم يــكونوا غــــايـة لها. كــــان غنـجها يزعجهم ويــــربكـــهم. كم كان يسرني عنادها ويشعرني تمنعها بالكرامة. لقد كانت تلك المنحوتة بمثابة واحد من أصواتي الداخلية. في ذلك البيت الذي صار اليوم بعيداً، وهو المكان الوحيد في العالم الذي أشعر بأنه بيتي الحقيقي، لا تزال منحوتة صديقي محمد الشمري تستأنف حوارها المرح كل يوم مع ضيوف وهميين، قد أكون أحدهم، من أجل إقناعهم بحقيقة حزينة ووحيدة: الأشكال هي التي تقترح حياتها، وليس هنالك شكل جاهز للحياة. كان الشمري يغذي منحوتاته بعنفوان غالباً ما يكون مستعاراً من فتاتها، وهو فتات لا يلتفت إليه أحد.

إنه يلتقط ذلك الفتات ساخناً كما لو أنه حضر إلى هذا العالم من أجل يديه اللتين ترتجفان بالمسرة وبريبة المسافر. غالباً ما تظهر تلك المنحوتة في أحلامي لتزيدني اقتناعاً بأنني ذاهب إليها، بصفتها رقية. أما جسدها فهو نوع من الترجمان.

فاروق يوسف
شاعر وناقد عراقي مقيم في السويد

daralhayat.com